الدين والتقاليد المرتكزات الأقوى للشباب العربي
قلما تتخذ التحولات مساراً خطياً؛ فهي حافلة بالتناقضات وغالباً ما تسير وفق المبدأ ’اللينيني‘ الشهير “خطوتان إلى الأمام، وخطوة إلى الوراء”.
يسلط استطلاع أصداء بي سي دبليو السنوي الخامس عشر لرأي الشباب العربي، الضوء على التناقضات التي ترافق سعي الدول العربية إلى تنويع اقتصاداتها، وإعادة النظر في العقود الاجتماعية القائمة، وإعادة صياغة الهويات وحتى الأعراف الاجتماعية والثقافية والدينية، بوتيرة تبدو مذهلة نوعاً ما.
ويوفر هذا النوع من الاستطلاعات انطباعات عابرة عن تلك التحولات، فلا تقدم إجابات محددة بقدر ما تعرض رؤى آنية فيها الكثير من الأسئلة المحيرة والاستفسارات عما ستؤول إليه الأمور حتى الاستطلاع القادم.
ورغم تأكيد غالبية المشاركين في الاستطلاع على أهمية الدين والتقاليد في حياتهم الشخصية والعامة، إلا أنهم يجمعون في الوقت نفسه على أنّ الدين يلعب دوراً أكبر مما ينبغي له في الشؤون الإقليمية. ويترك الاستطلاع الباب مفتوحاً بشأن ماهية تلك الشؤون الإقليمية التي أشار الشباب إليها وكيفية ارتباط الدين بحياتهم الشخصية.
على نحو مماثل، يرى الشباب العربي أن الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية أهم من بناء مجتمع أكثر تسامحاً وتحرراً وعولمة. ومع ذلك، أكد ما يزيد على 80% منهم ضرورة احترام الحريات، والمساواة، وحقوق الإنسان.
هذه التناقضات تعكس حالة انعدام اليقين التي أحدثتها التغييرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة في المنطقة، وأظهرت أن الشباب ينشدون الملاذ الآمن في الأيديولوجيات الوطنية لا العالمية، ويبحثون عن طوق نجاة يتشبثون به وسط مياه غير مستقرة. ويبدو جلياً أن الدين والتقاليد هي المرتكزات الأقوى للاستقرار المنشود مع تنامي ظاهرة التدين بين الشباب.
نتيجةً لذلك، يفضّل ثلثا الشباب العرب أن تستند القوانين في بلدانهم إلى الشريعة الإسلامية، ويعارض 70% منهم فكرة أن القيم الدينية تعيق تطور العالم العربي، بينما أبدى 76% منهم – وهذه النسبة أعلى قليلاً مما كانت عليه في السنوات السابقة – قلقهم من فقدان القيم الدينية والتقليدية. وينم هذا القلق عن مواقف معقدة تجاه جوانب الإصلاح؛ ومنها تراجع نسبة الشباب العربي الذين يعتقدون بأن المؤسسات الدينية في العالم العربي بحاجة إلى إصلاح، بنسبة 20٪ تقريباً من 79٪ في عام 2019 إلى 58٪ هذا العام.
يشير تركيز الشباب العربي على الدين والتقاليد إلى أن ترسخ الانتماء الوطني مقابل الانتماء الديني والقبلي لا يزال أمراً قيد التبلور في العالم العربي. وقال 54% من المشاركين في الاستطلاع إن الدين والعائلة أو القبيلة هي جوهر هويتهم الشخصية، مقارنة مع 23% فقط أشاروا إلى الانتماء الوطني والعربي.
على نحو مماثل، يعتبر أكثر قليلاً من نصف الشباب العربي أن اللغة العربية أقل أهمية بالنسبة لهم من آبائهم. وهذا يشير بطبيعة الحال إلى وجود ميل نحو مجتمع أكثر عولمة. ومع ذلك، يفاجئنا الشباب العربي بالقول إنهم أقل تركيزاً على العولمة.
وتبدو هذه التناقضات أكثر وضوحاً لدى تأمل الاختلافات الشاسعة في نظرة الشباب المستقبلية عبر مناطق العالم العربي. ففي هذا الجانب تحديداً، ثمة فارق بنسبة 20% بين آراء الشباب العربي في دول مجلس التعاون الخليجي من جهة وبقية دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا من جهة ثانية. إذ يعتقد 85% من الشباب الخليجي – مقارنة بما يزيد قليلاً على 60% في باقي الدول العربية – أن أيامهم القادمة أفضل. وعلى نحو مماثل، يعتقد 75% من الشباب الخليجي – مقابل 60% فقط من شباب شرق المتوسط وشمال أفريقيا – أنهم سيحظون بحياة أفضل من آبائهم.
ينعكس الواقع الصارخ وراء هذه الأرقام كذلك في مستوى ثقة الشباب العربي بسياسات حكوماتهم؛ فعلى مر السنوات الخمس الماضية، أبدى الشباب الخليجي ثقة عالية بأن سياسات حكوماتهم ستمكنهم من تحقيق أحلامهم، بينما كانت هذه النسبة متدنية دوماً في دول شرق المتوسط وشمال أفريقيا والتي شهد الكثير منها اضطرابات اجتماعية على مدى العقد الماضي.
وفي استطلاع هذا العام، قال 62% -72% من الشباب في معظم أنحاء العالم العربي إن اقتصادات بلدانهم تسير في الاتجاه الخاطئ، بينما كان هذا رأي 12% فقط من شباب دول مجلس التعاون الخليجي. بعبارة أخرى، كان لدى 88% منهم انطباع إيجابي عن التطورات الاقتصادية.
ولا يختلف الأمر كثيراً فيما يخص التطلع إلى الهجرة، حيث أعرب 53% من شباب دول شرق المتوسط، و48% من شباب شمال أفريقيا عن رغبتهم بالهجرة، مقارنةً مع 22% فقط من شباب دول مجلس التعاون الخليجي.
وكان البحث عن فرص العمل أبرز دوافع الشباب العربي للهجرة. مع ذلك، وبدلاً من البحث عن هذه الفرص في منطقة الخليج التي تتمتع بالديناميكية الاقتصادية والتقارب الثقافي، يتطلع الباحثون عن عمل للهجرة بشكل أساسي إلى كندا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. ومع ذلك، تتصدر الإمارات العربية المتحدة قائمة الدول التي يفضل الشباب العربي العيش فيها ويريدون لبلدانهم أن تقتدي بها.
ولعل القاسم المشترك بين الشباب العرب بصرف النظر عن آرائهم وبلدانهم هو الرغبة في إثبات المفهوم. ويكمن الفرق الرئيسي بين دول مجلس التعاون الخليجي وباقي الدول العربية أن الشباب الخليجيين يبدون ثقة أكبر من أقرانهم في دول شمال أفريقيا وشرق المتوسط بأن حكوماتهم ستوفر لهم الوظائف والفرص.
وفي الوقت ذاته، يبدو أن دول مجلس التعاون الخليجي – مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – تدرك المخاطر الكامنة في انحراف مسارات التنمية الإقليمية. وتتجه هذه الدول على نحو متزايد إلى ربط المساعدات المالية والاقتصادية بسياسات الإصلاح الاقتصادي للمستفيدين.
وقد يكون ضمان فوائد التغيير السريع والاستثمارات والمساعدات أمراً حاسماً لضمان تحقيق التوازن بين التقاليد والدين والتسامح وحقوق الإنسان والحرية والعولمة. علاوة على ذلك، قد يفضي إيجاد التوازن المناسب إلى دعم الانتماءات الوطنية السائدة مع ترك حيز للانتماءات الدينية والقبلية والثقافية الأخرى.
وإذا كان لنا أن نستخلص شيئاً من استطلاع هذا العام، فهو أن الشباب العرب يبحثون عن الثقة وسط بحر من اللايقين. ولا شك أن توفير الوظائف والفرص يساعد على خلق الثقة، مما يسهّل اندماج الدين والتقاليد مع متطلبات التنمية الاقتصادية.