الشباب العربي أول من سيعيش في ظل واقع جديد متعدد الأقطاب
يبدو أن طريقة وصف إرنست همنغواي للإفلاس كيف يحدث “تدريجياً ثم فجأة” تنطبق كذلك على العيش في عالم متعدد الأقطاب؛ حيث تُظهر النسخة الأحدث من استطلاع أصداء بي سي دبليو لرأي الشباب العربي أن المنطقة تشهد حالياً المرحلة “التدريجية” من تلك العملية.
ومع أن هذا الواقع المتغير بات واضحاً بالفعل، غير أن اكتشافه كتوجه لم يكن أمراً يسيراً بطبيعة الحال. ومن أبرز مزايا استطلاع رأي الشباب العربي هو أن البيانات التي قدمها على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية نجحت في رصد توجهات كانت مبهمة فعلاً في بدايتها.
وتوضح إحدى النتائج الرئيسية لاستطلاع هذا العام مدى ترسخ التعددية القطبية العالمية، حيث كشف الاستطلاع عن بعض الإجابات المثيرة للاهتمام بشأن الدول التي يعتبرها الشباب العربي حلفاء أو أعداء لبلدانهم.
وتتصدر تركيا قائمة الحلفاء من الدول غير العربية، تليها الصين مباشرةً، بينما تراجعت مكانة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. ويعكس هذا التحول صورة مصغرة لما يحدث حول العالم، حيث يلحق “الباقون” بركب “الغرب”.
ومع امتداده على ثلاثة من المراكز العالمية الرئيسية، كان الشرق الأوسط من أوائل المناطق التي لمست آثار الواقع الجديد. ومع تطوره، سيكون العالم العربي – والشباب العربي طبعاً – أول من يعيش في ظل هذا الواقع العالمي متعدد الأقطاب.
وفي بعض النواحي، أصبح هذا الأمر واقعاً بالفعل؛ وتجلى واضحاً في الاتفاق الذي توسطت فيه الصين في وقت سابق من هذا العام لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
ويتجلى هذا الواقع في نواحٍ أخرى أيضاً؛ فبينما يلعب انخراط تركيا والصين في المنطقة دوراً مهماً في رسم تصورات الشباب العربي، تلعب الثقافة دوراً موازياً لا يقل أهمية، حيث يتلقى الشباب العربي برحابة صدر الصادرات الثقافية التركية في مجال السينما والتلفزيون والموسيقى، بينما تصبح الصين مصدراً حيوياً للسياح. وعلى سبيل المثال، تخطط المملكة العربية السعودية – التي يستأثر الشباب بالنسبة الأكبر من سكانها – لاستقطاب أكثر من 4 ملايين سائح صيني بحلول نهاية العقد الجاري، ولا شك أن روابط كهذه تغير التصورات المتعلقة بهذا البلد.
مشهد جيوسياسي أكثر تعقيداً
لن تكون هذه التعددية القطبية كسابقتها عندما برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كقطبين عالميين خلال فترة الحرب الباردة، بل سيكون الأمر أكثر تعقيداً.
وعلى غرار معظم مناطق العالم، يعيش الشرق الأوسط في ظل الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة. ومن هنا، لا عجب أن يكشف الاستطلاع إذاً أن الولايات المتحدة لاتزال صاحبة التأثير الأكبر في المنطقة بهامش واسع عن باقي القوى الإقليمية والدولية.
وكشف أحد الأسئلة الاستطرادية عن اعتبار هذا التأثير سلبياً، حيث قال غالبية الشباب العربي إنهم يحبذون فك ارتباط الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط. (وكان الشباب الخليجي أقل تأييداً للفكرة، حيث أعرب 53% من هؤلاء عن رغبتهم بفك الارتباط مع الولايات المتحدة).
مع ذلك، وكما هو الحال دائماً، تبدو الصورة أكثر تعقيداً كلما اقتربنا منها. لنمعن النظر في النتيجتين التاليتين:
أولاً، لدى سؤال الشباب العربي عن البلد الذي يفضلون العيش فيه أو يريدون لبلدانهم الاقتداء به، اختاروا دولة الإمارات العربية المتحدة بأغلبية واضحة (ولا تزال هذه النتيجة ثابتة منذ أن طرح الاستطلاع هذا السؤال على الشباب العربي في عام 2012)، وحلت بعدها في المرتبة الثانية هذا العام الولايات المتحدة الأمريكية.
وتتقارب الأسباب التي جعلت دولة الإمارات تتصدر القائمة مع الجوانب التي يحترمها الشباب العربي في الولايات المتحدة؛ وفي مقدمتها الأمان، والاقتصاد المتنامي، وسهولة بدء الأعمال التجارية.
يمكن التماس المزيد من الأدلة عند سؤال الشباب العربي عن الدولة التي ستكون حليفاً أقوى لبلدانهم، إذ بالكاد تصدّرت الولايات المتحدة قائمة الخيارات. حيث اعتقدت النسبة نفسها تقريباً أن الولايات المتحدة ستكون حليفاً أقوى لبلدانهم من روسيا (66%)، ومن الصين (62%). وهذا يعني بعبارة أخرى أن الشباب العربي يميل إلى تفضيل الولايات المتحدة أكثر من روسيا أو الصين.
ويدل ذلك على فوضى التعددية القطبية، فالشباب العربي يبدون إعجابهم بالعديد من النواحي المتعلقة بالولايات المتحدة، ولكنهم في الوقت ذاته يرفضون انخراطها الزائد في المنطقة. ويبدو واضحاً كذلك أن الدول التي تسعى إلى منافسة الولايات المتحدة في بعض المجالات لا تهتم بذلك في مجالات أخرى.
فلا الصين ولا روسيا تريدان أن تحلا محل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ولكنهما تنافسانها حتماً في بعض المجالات. وسيكون من الصعب بطبيعة الحال فهم – أو حتى مجاراة – مثل هذا العالم متعدد الأقطاب.
الحلفاء والأعداء في دائرة الضوء
بشكل عام، يعتبر الحلفاء والأعداء انعكاساً لبعضهم البعض؛ فالدولة التي تعتبرها الأغلبية حليفاً لبلدانهم (تركيا) تحتل المرتبة الأدنى كعدو، وكذلك الدولة التي تعتبرها الأغلبية عدواً (إسرائيل) تحتل المرتبة الأدنى كحليف.
ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الهند وباكستان، حيث يعكس الاستطلاع فروقات أكثر دقة في مواقف الشباب العربي تجاه هاتين الدولتين الآسيويتين، وربما يعكس أيضاً العلاقات الطويلة والعميقة والمعقدة لهذين البلدين مع دول الخليج والعراق ودول المنطقة الأخرى.
وإذا كان الشباب العربي لا يزالون يعتبرون الدول العربية الأخرى حلفاء لبلدانهم – علماً بأن الحلفاء الأقوى بنظرهم لطالما كانت دولاً عربية أخرى – فإن نظرتهم بشأن الدول غير العربية في الشرق الأوسط تبدو أكثر دقة. وتحتل تركيا المرتبة الأولى بين الحلفاء غير العرب في المنطقة، تليها إيران وإسرائيل.
وعلى نحو متوقع، يبدي الشباب العربي تحفظاً أكبر حيال العلاقات مع إيران وإسرائيل؛ ففي ثلاث دول عربية فقط (مصر والمغرب والإمارات)، أعرب ما يزيد على 50% من الشباب عن تأييدهم لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بينما يلقى الأمر معارضة أكبر بكثير في غالبية الدول العربية.
ويعتقد غالبية الشباب العربي في المناطق التي شملها الاستطلاع أن التوترات بين إيران وإسرائيل والدول الغربية ستشعل فتيل الصراع العسكري بنهاية المطاف . وليس غريباً أن تكون النسبة الأعلى لأصحاب هذا الرأي في دول شرق المتوسط حيث تدور هذه الحرب بالوكالة فعلياً، لكن المفاجأة أن تكون هذه النسبة مرتفعة للغاية في شمال أفريقيا التي لا تعتبر ساحة مواجهة تقليدية لتصفية الحسابات الإيرانية الإسرائيلية.
بزوغ نجم المواطنة العالمية
كيف ستكون نتائج هذا التحول إلى التعددية القطبية، ولا سيما فيما يخص الشباب العربي؟
لقد تطرقنا إلى بعض هذه النتائج بالفعل: ومنها نشوء ارتباطات ثقافية وسياسية موسعة ستفضي بلا شك إلى تغيير ملموس في فرص العمل؛ حيث سنشهد بالتأكيد إقبالاً أوسع من الشباب العربي على تعلم لغة المندرين للحصول على وظائف في شنغهاي. وأتوقع كذلك نمواً مماثلاً في أعداد الشباب العربي الذين سيتعلمون اللغة التركية، وسيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى اتساع مساحة التأثير “العثماني” في الفضاء الإعلامي العربي.
وستؤدي هذه التغييرات بمرور الوقت إلى تحول حقيقي في سياسات المنطقة، حيث سيثمر التأثير الثقافي عن تحالفات سياسية.
غير أن التحول الرئيسي سيكون في طريقة التفكير. فعندما ينظر الشباب العربي إلى دول أخرى خارج منطقة الشرق الأوسط وبعيداً عن نطاق تحالفاتهم التقليدية مع الدول الغربية، حينها ستتغير أيضاً طريقة تفكيرهم بأنفسهم.
صحيح أن المواطنة العالمية الجديدة لن تظهر بين عشية وضحاها، ولكن ملامحها بدأت تلوح في الأفق بالفعل مع تغير نظرة الشباب العربي إلى هذا العالم الناشئ. ولا شك أن طريقة تعاملهم مع الواقع الجديد سيكون واحداً من أكثر الجوانب إثارةً للاهتمام.
– انتهى –
فيصل اليافعي هو شريك في وكالة الاستشارات الاستراتيجية “هيلدبراند نورد”، وصحفي في مجلة “نيولاينز” التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، وكاتب مسرحي. عمل اليافعي صحفياً في العديد من دول الشرق الأوسط، وكان في السابق صحفياً استقصائياً لجريدة “ذا جارديان” اللندنية، وصحفياً وثائقياً لمحطة “بي بي سي”، وقام بتغطية العديد من الأحداث في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشرق أوروبا وأفريقيا.