خمسة عشر عاماً في إيصال صوت الشباب العربي
عندما أطلقت أصداء بي سي دبليو استطلاعها السنوي الأول لرأي الشباب العربي في نوفمبر 2008، كان العالم يعيش فترة من التغيير الدراماتيكي.
كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما على وشك أن يبدأ ولايته الأولى، وكان المزاج العام يميل إلى التفاؤل بعد سنوات من الحرب في العراق وأفغانستان.
وبالكاد كان يستعد لتولي المنصب، ضربت الأزمة المالية العالمية التي امتدت تبعاتها سريعاً من وول ستريت إلى باقي أرجاء المعمورة وصولاً إلى الشارع العربي.
وعلى مدى عقد قبل ذلك كله، كانت دول مجلس التعاون الخليجي تعيش أوج ازدهارها الاقتصادي، وكانت دولة الإمارة، و دبي على وجه الخصوص رمزاً لذلك الازدهار، حيث وصفها بعض المراقبين الغربيين بأنها “منارة للأمل” في منطقة يسود عمومها الصراع والخلافات.
ومع ذلك، تفاقمت الصراعات القديمة في باقي أنحاء الشرق الأوسط؛ فقد زادت أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تفاقماً، وشهد العراق موجة من هجمات المتمردين، ووصلت الأمور في ليبيا ومصر وتونس واليمن إلى حافة الهاوية.
العائد على الاستثمار في الشباب العربي في خطر
وسط تصاعد موجة الاستياء العام، كانت التحركات الشعبية تتنامى في مصر وتونس ودول عربية أخرى؛ غير أنها غابت عن أنظار معظم صناع القرار ووسائل الإعلام الدولية أو أنهم اختاروا تجاهلها بطبيعة الحال.
كانت أصداء بي سي دبليو – وبصفتها شركة استشارات العلاقات العامة الرائدة في منطقة الشرق الأوسط – تراقب شؤون العالم العربي عن كثب منذ تأسيسها قبل 20 عاماً، وكان واضحاً لها منذ البداية أن المنطقة على وشك أن تفقد “العائد على الاستثمار في الشباب” والمساهمة المرجوة من هذه الشريحة المهمة.
وفي حين أشارت بيانات الأمم المتحدة إلى نمو بطالة الشباب العربي بنسبة كبيرة، إلا أن المنطقة كانت تفتقر إلى بحث موثوق يرصد الأوضاع والمواقف على أرض الواقع. كانت الحاجة إلى خلق 100 مليون فرصة عمل للشباب العربي موضوعاً متداولاً في دوائر الحوار، لكن أحداً لم يبحث كيفية القيام بذلك. ونادراً ما كان الشباب أنفسهم جزءاً من هذا الحوار.
حينها فقط أدركنا مدى الحاجة الماسة لإجراء استطلاع يستكشف آمال مواقف وتطلعات الشباب العربي، الشريحة السكانية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط والتي تضم أكثر من 200 مليون شاب وشابة تقل أعمارهم عن 30 ويشكلون بذلك حوالي 60٪ من سكان العالم العربي. ولهذا قررنا في عام 2008 إطلاق استطلاعنا السنوي لإيصال صوت الشباب العربي من جميع أنحاء المنطقة.
عند تقديم الاستطلاع الأول في عام 2008، كتبت أن الأساس المنطقي لاستطلاع الرأي المتاح للجميع كان واضحاً: “الرؤى الدقيقة تؤدي إلى سياسات مدروسة وبيئات مثالية يمكن للشباب أن يزدهروا فيها”.
استشراف الربيع العربي
لاقت دراستنا الأولى حول آمال ومواقف وتطلعات الشبان والشابات العرب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً أصداءً إيجابية للغاية. إلا أن الأهمية الحقيقية لدراستنا السنوية ستتضح بعد عام من ذلك عندما أظهرت نتائج الدراسة أن الأولوية القصوى للشباب العرب كانت العيش في بلد ديموقراطي، يليها الحصول على تعليم جيد، ومن ثم الحصول على أجر عادل، والعيش في مكان آمن.
في ديسمبر التالي، أشعلت تضحية طارق الطيب محمد البوعزيزي بنفسه شرارة الإطاحة بالنظام التونسي، وحملت معها بوادر تغيير أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن. وبذلك غيّر الربيع العربي ملامح المنطقة العربية – ومعها بقية العالم – إلى الأبد.
أدى ذلك أيضاً إلى تحول التصور العام لهذه الدراسة السنوية، حيث أصبح استطلاع أصداء بي سي دبليو السنوي مرجعاً موثوقاً لرأي الشباب العربي كونه نجح بدقة في استشراف بعض التوجهات التي أدت إلى أكبر الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط لجيل كامل.
إعادة تعريف لائحة الأولويات
تسلط دراستنا الضوء سنوياً على تطلعات الشريحة السكانية الأكبر في العالم العربي، وترصد تغير عقليتها وأولوياتها. في عام 2012، اعتبر المشاركون أن الأجر العادل وامتلاك منزل أهم من العيش في ظل الديموقراطية. وفي عام 2013، لمسنا من خلال الدراسة روحاً جديدة قوامها التفاؤل، حيث أشار معظم المشاركين إلى أن أيامهم القادمة أفضل.
وفي عام 2014، كشفت الدراسة عن تزايد الثقة في الحكومات. وبعد عامين على ذلك، قال أقل من نصف المشاركين إنهم يثقون بقدرة حكوماتهم الوطنية على إدارة ملف الإرهاب المتصاعد والتهديد الذي يشكله تنظيم داعش.
في عام 2018، ازدادت حدة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ورصدت دراستنا انحسار تفاؤل الشباب وتفاوت الآراء بين مواطني دول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط وجيرانهم الذين يعانون من اضطرابات في دول شمال أفريقيا وشرق المتوسط.
وارتفعت الأصوات التي تنادي بالإصلاح في عام 2019، ولكن هذه المرة لإصلاح المؤسسات الدينية. وفي عام 2020، عام جائحة كوفيد-19، بلغت الثقة أدنى مستوياتها، حيث قال حوالي نصف المشاركين أنهم فكروا بالهجرة من بلدانهم بشكل جدي، وكانت هناك مخاوف متزايدة من ان يؤدي الإغلاق المطوّل إلى تنامي الاهتمامات السياسية وفقاً لما أشار إليه استطلاعنا المختصر الذي أجريناه في ذروة الجائحة.
كما كان متوقعاً، ومع بدء انحسار تهديد كوفيد-19 في عام 2021، أشار استطلاعنا إلى تجدد ثقة الشباب العربي. وفي العام التالي، كان واضحاً توق الشباب العربي إلى الاستقرار – ورسم مسار جديد – بعد عقد من عدم اليقين والاضطراب. وكان هذا التوق في الواقع أقوى حتى من رغبة الشباب العرب في التغيير الديمقراطي، وهو انعكاس مذهل في المواقف مقارنة بمواقف أقرانهم في عام 2009.
نهضة الجيل زد
ينتمي جميع أفراد العينة المشمولة في استطلاع هذا العام إلى جيل ما بعد الألفية المولود بعد عام 1997، والمعروف أيضا” باسم “الجيل زد”. ويتصالح هذا الجيل مع أحداث السنوات الخمسة عشر الماضية، بما فيها: الحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن، وصعود تنظيم داعش ثم انهياره، وتفشي جائحة كوفيد-19، ونسبة البطالة التي تكاد تصل أعلى مستوياتها على الإطلاق، وتسارع عملية التحول الرقمي، والتهديد الوجودي للتغير المناخي.
وكالعادة، تكشف نتائج الاستطلاع أن الصورة الحقيقية لمنطقة الشرق الأوسط ليست ببيضاء ولا سوداء.
وأبرز نتائج هذا العام هو الإحساس بأن جيل الشباب العربي اليوم يعيشون “واقع جديد ونظرة متغيرة”– وهو العنوان الرئيسي لدراسة هذا العام – في ضوء تغير الولاءات الجيوسياسية، واختلاف المواقف تجاه النزاعات طويلة الأمد في المنطقة، وآراء الشباب العربي حول مقومات “الدولة المثالية”.
وقررنا نشر نتائج الاستطلاع على ست مراحل على مدار العام، تتناول كل مرحلة منها أحد المواضيع الستة الرئيسية: مواطنتي العالمية، وتوجهاتي، وسبل معيشتي، وهويتي، وطموحاتي المستقبلية، ونمط حياتي.
يأتي هذا القرار استجابةً لطلب العديد من أصحاب المصلحة، ذلك أن حجم البيانات في كل واحد من الاستطلاعات السابقة كان ببساطة أكبر من أن يتم نشره دفعة واحدة. وقد أخذنا ملاحظتهم هذه في الاعتبار.
ونعتقد أن الكشف عن نتائج كل موضوع من المواضيع الستة على حدة سيتيح لنا فهمها بشكل أفضل في سياق المستجدات الإقليمية والعالمية وقت إصدارها. ووفقاً لذلك، نستعرض في هذه الوثيقة النتائج المنضوية في إطار أول المواضيع الستة – مواطنتي العالمية.
وحين أتأمل الـ 15 عاماً الماضية من استطلاع أصداء بي سي دبليو لرأي الشباب العربي، يدهشني حقاً أننا قد تمكنا من إجراء ما يقارب من 45000 مقابلة مباشرة، ونجحنا اليوم في الوصول إلى 18 دولة عربية، والأهم من ذلك توفير مصدر مذهل للبيانات والمعلومات، عبر مبادرة ذاتية قمنا بتمويلها بأنفسنا بالكامل ونضعها في متناول الجميع.
وسنواصل عبر استطلاعنا إعطاء الشباب العربي منصة لإيصال صوتهم وآرائهم. وبينما ترسم المنطقة مساراً جديداً نحو مستقبل أكثر سلاماً واستدامة، يتحتم علينا جميعاً مواصلة الاستماع إليهم وتفهم توجهاتهم .