مخاوف قديمة مع تطلعات جديدة: توجهات متغيرة في عالم متغير
مع بلوغ استطلاع أصداء بي سي دبليو السنوي لرأي الشباب العربي عامه الخامس عشر، فإن العديد من أبناء “الجيل زد” في العالم العربي – ممن نشأوا في ظل الاضطرابات الإقليمية، وجائحة كوفيد-19، والتهديد الوجودي لأزمة المناخ – بلغوا سن الرشد في عالم تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي وتتصاعد حدة الانقسامات الدولية.
لطالما عانى هذا الجيل من قلة فرص العمل، حيث بقيت معدلات البطالة على حالها منذ اندلاع الانتفاضات العربية. ومع الأسف، تفاقمت هذه التحديات بعد كوفيد-19، حيث ارتفعت مستويات التضخم إلى حد كبير بالتزامن مع تزايد ضغوط تكاليف المعيشة.
واليوم، باتت السياسات الحكومية أقل قدرةً على معالجة هذه التحديات مقارنةً بما كانت عليه قبل الجائحة، ولا سيما مع ارتفاع أسعار الفائدة العالمية التي زادت من تكلفة الاقتراض لتلبية المطالب العامة. وعلاوةً على ذلك، يمكن أن يتسبب تصاعد حدة الانقسامات العالمية إلى انحسار آفاق النمو في المنطقة على المدى الطويل.
بحثاً عن الفرص
يكشف الاستطلاع عن تغير ملموس في مواقف الشباب العربي. فبينما لا يزال شباب المنطقة غير راضين عن سياسات حكوماتهم لمعالجة مشكلات البطالة والتضخم، يبحث الكثير منهم عن فرص جديدة لرسم مساراتهم الخاصة من خلال ريادة الأعمال، ولاسيما في قطاع التكنولوجيا سريع النمو.
وبقيت الوظائف الحكومية لسنوات طويلة خياراً مفضلاً للشباب العربي لما توفره من رواتب مجزية ومزايا مهنية واستقرار وظيفي. لكن الأمر لم يعد كذلك الآن؛ حيث أعرب أقل من ثلث المشاركين في استطلاع 2023 عن رغبتهم بالعمل في القطاع الحكومي، بانخفاض حاد يصل إلى النصف مقارنةً مع عام 2019، وبنحو 10% عن الاستطلاع السابق.
وفي الوقت نفسه، ازداد عدد الشباب العرب الذي يفضلون وظائف القطاع الخاص بنسبة 13% مقارنة بعام 2022. ولا تزال روح ريادة الأعمال قوية في المنطقة، حيث قال ربع المشاركين إنهم يفضلون العمل بشكل مستقل أو لدى عائلاتهم. ومن اللافت للنظر أن ما يزيد على 40% من المشاركين قالوا إنهم يعتزمون بدء أعمالهم الخاصة خلال السنوات الخمس المقبلة.
وتبدو هذه التوجهات للعمل في القطاع الخاص واعدة وإيجابية إلى حد كبير كونها تبشر بنموذج نمو جديد يستند إلى القطاع الخاص الديناميكي بدلاً من التدخل الحكومي.
وفي ضوء الانتشار الواسع للتقنيات الرقمية في المنطقة، لا عجب أن يتجه الشباب العربي إلى قطاع التكنولوجيا لبدء عمل خاص (15%)، ومن ثم إلى التجارة الإلكترونية (13%)، وبعدها نحو المجالات الإبداعية والتصنيع والعقارات بنسبة تقارب 10% لكل منها.
الشباب العربي يطالب بـ “صفقة جديدة”
لم يعد الشباب العرب يطالبون بالحصول على مساعدات أو وظائف لكسب لقمة العيش، وجل ما يريدونه اليوم هو الأدوات التي تمكنهم من إيجاد سبيلهم بأنفسهم. فهم يطالبون بحقهم في التعليم، والوصول إلى الخدمات المالية، وأسواق أكثر كفاءة. وينشدون تحديداً تخفيض الرسوم المفروضة على الشركات الناشئة وتعزيز فرص التدريب والتعليم، ويعتبرون هذه “المطالب” أساسيةً للمساعدة في توفير الفرص. ويشير الشباب العربي كذلك إلى أهمية الحد من الروتين الحكومي، وتبني سياسات حكومية ومالية مستقرة، والعديد من الأمور الأخرى.
ويكشف الاستطلاع كذلك أن الشباب العربي جاهزون لنقلة نوعية يتولى فيها القطاع الخاص دفع عجلة النشاط الاقتصادي وخلق فرص العمل، بينما يلعب القطاع العام دوراً داعماً. وسيكون بناء قطاع خاص أكثر حيوية عاملاً أساسياً لخلق فرص العمل، خصوصاً وأن ما يزيد على 90% من الوظائف بات يوفرها القطاع الخاص.
وفي خضم بيئة عالمية صعبة ازدادت فيها تكلفة التمويل بشكل كبير، بات العديد من دول المنطقة (ولا سيما مستوردي النفط الذين تفاقمت ديونهم بعد جائحة كوفيد-19) تفتقر إلى الإمكانات المالية التي تؤهلها لتكون المحرك الرئيسي للنمو وخلق فرص العمل.
مع ذلك، يستمر تركيز الشباب العربي على “القضايا المعيشية” مثل ارتفاع تكاليف المعيشة، والبطالة، وتردي الوضع الاقتصادي، والفساد الحكومي، وعدم المساواة، إذ تشغل هذه القضايا حيزاً كبيراً من اهتمامهم. وتكشف نتائج الاستطلاع لعام 2023 أنه على الرغم من التفاوت الكبير في الدخل والثروات، إلا أن القضايا المعيشية لا تزال من الأولويات الرئيسية للشباب العربي.
حوار لبناء الثقة
أثبتت التجربة خلال العقد الماضي أن الحوار المتبادل، حيث تحدد الحكومات الأولويات وتختارها وتعدّلها إذا اقتضى الأمر استجابةً لمطالب الأفراد، يعتبر أمراً بالغ الأهمية لتحقيق التوافق الاجتماعي المنشود. فهذا يخلق شعوراً لدى الأفراد بقدرتهم على التأثير في القرارات الحكومية وعدم الخضوع لسياسات تخدم القلة فقط.
وبادرت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي خلال السنوات الأخيرة إلى تحديد أولويات الموارد الوطنية وتخصيصها لتلبية تطلعات شبابها. ويبدو تأثير هذه السياسات واضحاً في نتائج الاستطلاع: حيث قال ثلاثة أرباع المشاركين من منطقة دول مجلس التعاون الخليجي إن صوتهم مهم لقيادات بلدانهم مقارنةً بثلث الشباب العربي في شمال أفريقيا ودول شرق المتوسط.
ومن بين النتائج المثيرة للاهتمام في استطلاع هذا العام أيضاً أن الشباب العرب لا يثقون بأن طموحاتهم تلقى آذاناً صاغية لدى حكوماتهم؛ حيث أعرب 46% فقط من الشباب العربي المشاركين عن ثقتهم بأن قيادات بلدانهم تهتم لرأيهم. ويعد ذلك انخفاضاً واضحاً بالمقارنة مع نتائج استطلاع 2022، والذي أعرب فيه ثلثا الشباب العربي تقريباً عن اعتقادهم بأن صوتهم مهم لقيادات بلدانهم.
ما الذي يتوجب على صناع السياسات فعله استجابةً لمطالب الشباب العربي؟
تشير التوقعات إلى أن أكثر من 100 مليون شاب وشابة عرب سيبلغون سن العمل خلال السنوات العشرة المقبلة. ولهذا، فقد آن الأوان لتغيير محرك النمو في العالم العربي بما يضمن مواجهة التحديات واغتنام الفرص في عالم سريع التطور. وفي ظل انعدام اليقين والرياح الاقتصادية المعاكسة على مستوى العالم، يجب على صناع السياسات الاستمرار في معالجة أزمة تكاليف المعيشة واستعادة زمام المبادرة في معالجة الديون المرتفعة وكبح جماح التضخم. وسيكون استقرار الاقتصاد الكلي ركيزة أساسية للنمو حيث يعيد القطاع الحكومي التركيز على الخدمات العامة مثل الصحة، والتعليم، وشبكات الأمان الاجتماعي.
ومن هنا، ينبغي على الحكومات أن تعطي الأولوية لخلق بيئة داعمة للقطاع الخاص تساعد على تعزيز الاستثمار والإنتاجية والقدرة التنافسية وخلق فرص العمل، بما في ذلك تدريب القوى العاملة للاستفادة من عالم التكنولوجيا سريع التطور.
وينبغي كذلك الحد من العقبات القانونية وممارسات التمييز ضد أنشطة القطاع الخاص، ويمكن للشمول المالي أن يوفر رأس المال الذي تحتاجه شركات القطاع الخاص للاستثمار في نموها. كما يساعد حفز مشاركة هذا القطاع في ضمان المساءلة وتعزيز الثقة والتماسك الاجتماعي؛ ذلك أن المؤسسات التي تتبنى معايير الشفافية والمساءلة تساعد على إرساء قواعد عادلة وواضحة للجميع، مما يحسن الثقة بالقطاع الخاص واستثماراته على المدى الطويل.
ويبدي صندوق النقد الدولي استعداده التام لدعم صناع السياسات والشباب العربي من خلال تقديم المشورة والتمويل وتطوير قدرة الحكومات على مواجهة التحديات المقبلة. ونعتزم مناقشة سبل تعزيز النمو الشامل في المنطقة خلال الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لعام 2023 والتي تنعقد في مراكش.
أدعوكم لقراءة التوصيات المتعلقة بالسياسات العامة وملخص عملنا بشأن هذه القضايا على موقعنا الإلكتروني www.imf.org. علاوة على ذلك، تساعد أبحاث الصندوق بشأن الشمول المالي، وأهمية إصلاحات الحوكمة، وشبكات الأمان الاجتماعي القوية والهادفة في تعزيز الحوار حول سبل التكيف مع عالمنا دائم التغير.
كما نساعد حكومات المنطقة على تحسين عملياتها ووضع السياسات المناسبة وفقاً لأفضل الممارسات الدولية. والأهم من ذلك أن صندوق النقد الدولي مستعد دائماً للإصغاء إلى الشباب العربي ودعمهم ليكونوا قادة المستقبل، فضلاً عن إرساء السياسات الكفيلة بنهضة بلدانهم.